عندما عادت الأمور أو آلت إلى الجد، اجتمعت كل القوى على الأكراد، فما استطاعت كوردستان الحصول على الاستقلال بعد الاستفتاء. وكان واضحاً لمسعود البارزاني منذ البداية أنّ الحكومة العراقية لن توافق، وكذلك الأتراك والإيرانيون. لكنه كان يراهن على الدعم الأميركي. فالأميركيون حاضرون بالعراق الآن، وقد جاؤوا ثانيةً باسم مقاتلة «داعش»، وأول دوافعهم الدفاع عن الأكراد في العراق وسوريا. لذلك حسب البارزاني أنها فرصةٌ لا تُعوَّض. لكنْ لماذا كان البارزاني مضطراً للاستفتاء؟ كان مضطراً لذلك لأنّ وضعه القانوني غير سليم، وكان ينبغي أن يغادر منصبه قبل سنوات. وقد ازدادت الانقسامات بينه وبين «حركة التغيير» الكردية وحزب طالباني الأقرب لإيران. وقد ظن أنه في موقع قوة الآن؛ فالبشمركة في قوة الجيش العراقي، وقد استولت على كل المناطق المتنازع عليها مع الحكومة، وبخاصة كركوك وآبار النفط فيها. فلو أنه بالاستفتاء سار نحو الاستقلال، لكان بطل الأكراد وزعيمهم القومي الأبدي، خاصة أنه يذهب إلى الاستقلال مع كركوك وما حولها وأجزاء من نينوى وديالى، وكلها مناطق لا يشكل الأكراد أكثرية فيها، لكنهم – وبخاصة كركوك – يعتبرونها من مناطقهم التاريخية!
على كل حال غامر الرجل، وفي ذهنه دعم الأميركان، وأنّ الجيش العراقي لن يقاتل الأكراد كما كانت جيوش صدام تفعل. وقد حصل الأمران اللذان لم يتوقعهما: وقف الأميركان على الحياد وأعلنوا ذلك، ودخل الجيش العراقي (ومعه مليشيا «الحشد الشعبي») إلى كل المناطق المتنازع عليها، والتي كان الأكراد يحتلونها. وخسرت القضية الكردية ثلاث مرات: مرةً لأنها ما حققت أملها في ضم كركوك، ومرة لأنّ الانقسام بالداخل الكردي صار أكثر عمقاً؛ فقوات طالباني وحزبه انسحبا باتفاق مع العراقيين وسليماني. ومرة ثالثة لأنّ التفاوض مع الحكومة العراقية صار أصعب، لأنّ الشيعة العراقيين أدركوا أن الأكراد أضعف عسكرياً وسياسياً مما كانوا يظنون. وقد ظل البارزاني منذ عام 2003 هو سيد الساحة العراقية، والحكم الأكبر في كل القضايا؛ فالكرد في العراق أقوى منهم خارجه، ولو صاروا دولةً مستقلة. لكنّ «غلطة الشاطر بألف غلطة»!
إن وضع الأكراد في سوريا مختلف. فهم في الأصل ليسوا أصحاب مشروع استقلالي. والأميركان والروس معهم حتى الآن في مسائل الفيدرالية. ثم إنّ النظام السوري لا يكف عن مجاملتهم والتنسيق معهم ما أمكن. لكنّ تركيا ضد المشروعين: الاستقلالي والفيدرالي، إذ طالما كانت حتى مناطق صديقهم البارزاني ملاذات لـ«حزب العمال» الكردستاني، وهو ما يخشون أن تصبح عليه المناطق الكردية السورية. بل ويزعم الأتراك أن الجذر العسكري القتالي لقوات «سورية الديمقراطية» هو «حزب العمال» وقواته. ولا يمكن إرغام تركيا على الانسحاب، وبخاصة أنه صارت لها وظيفة في إدلب. فالأمر رهنٌ بالحل السياسي أو الانتقال السياسي بمقتضى القرار 2254. وهذا بعيدٌ بعض الشيء لأن الأميركان والروس متنافرون، إذ أن أنصارهم يتنازعون على المناطق ويتسابقون للحصول عليها. وقد حصل شركاء الأميركيين على الرقة، ويريدون الحصول على شرق دير الزور، وهذا دخولٌ في المحظور الروسي والإيراني، مع أن النظام والروس والإيرانيين سيطروا على أحياء من الدير غرب الفرات، وسيطروا على مدينة الميادين، وهي نقطة داعشية استراتيجية. ودير الزور مهمة للإيرانيين وللنظام، لأنها بلد النفط، وأقرب للحدود العراقية، والإيرانيون يريدون كوريدور بين طهران ولبنان («حزب الله») عبر العراق وسوريا!
في الحسابات الاستراتيجية، لا تُهم أعداد الميليشيات ولا قوتها، بل المهم هو على أي أرض تسيطر، وإلى أي دولة تستند؟ «حزب الله» وميليشيا «الحشد الشعبي» ينتميان إلى إيران، ولأن إيران قوية بشراكاتها مع الروس والأتراك، تبدو ميليشياتها قوية وتتقدم. أما البشمركة التي وصلت أعدادها إلى 150 ألفاً، فإنها بدت ضعيفة تماماً؛ لأنه لا سند لها في التسليح والإمداد والحماية، ما دامت القوة الأعظم ليست معها، ودول المحيط جميعاً ضدها!
لذلك، ورغم أن ظروف أكراد سوريا ما تزال أفضل (حتى الآن على الأقل)، فإن قوّتهم وقدرتهم منوطة بمدى وقوف أميركا وروسيا مع طموحاتهم من جهة، ومدى التفاهم بين النظام السوري والأتراك في المستقبل على حلٍ مع قوات «سوريا الديمقراطية»، أو مكافحتها. ويا للكرد!